ایکنا

IQNA

الحزبيات الدينية وخراب المساجد

14:53 - March 05, 2024
رمز الخبر: 3494851
بيروت ـ إكنا: نرى أن ما تعايشه أمة العرب والمسلمين اليوم من ضياع وسعي في الخراب، وخصوصاً في مساجدها،كان ولا يزال من تعبيرات ونتائج تحكمات الحزبيات الدينية المقيتة بأمور الدين والدنيا.

وسأل الإخوة الأفاضل عن حقيقة موقفنا من الحزبيات الدينية ودورها في تهديم المساجد وتهويد المقدسات، فكان السؤال الآتي: ما هي حقيقة الموقف القرآني من الحزبية لجهة دورها في إفساد الدين وتخريب مساجد الله تعالى؟ هذا وقد ذكرتم في بحوثكم القرآنية أن حياة الأميين العرب لم تخل من هذه الحزبية، تماماً كما هو حال بني إسرائيل؛ ألا تخشون من إسقاط للنصوص على الوقائع والتجارب؟

وكيف لنا، من جريان القرآن في حياتنا، أن نستفيد الدور  ذاته لهذه الحزبية في تهديم المساجد وتخريبها!؟


إن إطالة السؤال وتضمنه جملة من الملاحظات ذات البعد الإشكالي، يفرض على الباحث المتمّرس أن يكون مستجيباً لدعوة الاختصار بالشكل الذي يمنع من الإطناب، ويلخص الموقف بما لا يخل بجوهر الأسئلة ومضامينها؛ فنقول: إن معنى الإسقاط هو أن نحمّل النص ما لا يحتمله أو أن نعمل على تظهير النصوص وفق مثيرات وبواعث خاصة تدفع إلى اعتماد آليات دفاعية لتحقيق الملائمة بين ما نراه،وبين مفاد النصوص في حقيقة دلالاتها، وهذا ما لا نراه واقعًا في ما نبحث عنه ونجيب عليه.

وذلك عملًا بقاعدة التأسيس القرآني، وملاحظة حقيقة المصاديق التي تختلف وتتعدد بلحاظ الزمان والمكان والظروف والأحوال، وقد رأينا في بحوثنا،كما علمتم أن اليهودية في تاريخها انفصلت عن بني إسرائيل، وشكّلت ظاهرة حزبية متميزة في فهم الدين؛ فلم تبق لها فضائل بني إسرائيل بعد أن حرّفت وبدّلت، ولهذا نجد القرآن يذّمها ويغضب عليها،بخلاف الخطاب الودي مع بني إسرائيل.هذا أولاً.


ثانيًا: لابدّ في التأسيس القرآني من مراعاة ما يفيده المصطلح أو المفردة في سياقاتها المختلفة،وقد علمنا أن القرآن يخص اليهودية بأوصاف كثيرة، ويحذّر منها لما تشكله من خطر على الدين، وهذا ما نرى فيه تأسيساً أصيلاً في الرؤية القرآنية أن اليهود انفصلوا عن بني إسرائيل، وخصّوا بحيثية اللعن دائمًا وأبدًا لما كان منهم من تحريف وتأويل للتوراة، فهم ملعونون على نحو القضية الحقيقية كما يقول علماء الأصول؛ فإذا كنا نجد لهذه الحزبية إرهاصات وجذور في زمن النبي موسى(ع) فهذا لا يفيدنا أن الهيودية كانت تعبيراً توراتياً، لما هو معلوم عند العلماء من أن التوراة نزلت على الذين هادوا ومقتضي تمايز المفردات أن تتمايز الدلالات، فلا يقال:إن الذين هادوا هم اليهود،…!؟

ثالثاً: إن ما يفيده القرآن تأسيساً وتأصيلاً هو أن اليهودية منهج حزبي فاسد ومفسد في الفكر والعمل، وذلك يتبدى لنا واضحاً من آيات سورة البقرة التي تبين ما لليهود من دور في التكذيب والتحريف والإفساد في الأرض،كما قال تعالى في الآية الـ113 من سورة البقرة: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".

فالآية ناظرة إلى مزاعم هؤلاء في ما يراه كل حزب لنفسه من قدسية الإيمان والعمل،والملاحظ من مدلولات الآية،هو الإشارة إلى الذين لا يعلمون من مشركي قريش الذين ألحقوا باليهود والنصارى في زعم القول وفساد الدين والعمل، وهذا ما ينطوي على تأسيس عظيم في البناء القرآني،لجهة ما ينبني عليه من كون أحزاب الأميين العرب ذكروا في سياق واحد مع اليهود والنصارى ما يدلل على أن هؤلاء شركاء في الحزبية الدينية،على اعتبار أن كل من لم يهتدِ بالحق كانت له هذه الحيثية،تماماً كما جرى للذين كفروا من إسرائيل في تاريخهم.

وكانت نتيجة تفاعلاتهم التحريف والإفساد والقول على الله بغير علم، وهذا ما ينطبق على أحزاب الأميين العرب الذين زعموا الحق لأنفسهم، وقالوا مثل اليهود والنصارى،ويشهد لنا على ذلك قرآنياً تحالفات أحزاب الأميين مع اليهود في معركة الأحزاب وفي سائر غزوات الرسول(ص) ضد اليهود في المدينة المنورة!؟ فالأمر ليس إسقاطًا،ولا هو تحميل من خارج سياق النصوص كما ترون،…!؟

رابعاً: إن سؤالكم عن جريان القرآن في حياتنا لتظهير حقيقة الموقف من حيث تخريب المساجد والمنع منها، فهذا ما يفيده القرآن أيضاً.،حيث أنه أعقب آيات المزاعم اليهودية والنصرانية بآية المساجد، فقال تعالى:" ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها،أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين…"،وهنا تبدو لمتأمل بصير حقيقة التظهير القرآني لحقيقة وواقعية ما هم عليه الأحزاب،إذ إن ما يجري اليوم في مقدساتنا ومساجدنا يلابس ويمازج هذا النص تمامًا، فنجدأن أحزاب الأميين من أعراب وغيرهم يتحالفون مع اليهود لتخريب المساجد، ويمنعون أن يذكر فيها اسم الله تعالى، فهذه الآية تتجاوز أن تكون مصداقاً لتكون تعبيراً حياً وصادقاً عما يجري في الواقع،وما تؤديه الأحزاب الفاسدة من وظائف ومظالم بحق الله والناس!؟

فإذا كان السؤال عن حقيقة الموقف القرآني، فقد بان أن الحزبية الدينية التي يجمعها الباطل والفساد،هي ذاتها التي تترامى على أطراف هذا الوجود الإسلامي،وهي لا تمنع وتخرب في فلسطين والقدس وحسب، وإنما هي ممتدة على طول خط قدسية مساجد الأمة، بدءًا من المسجد الحرام،وانتهاءًا بالقدس وفلسطين! فلم ينج من فساد هذه الحزبية أحد،لا في دين ولا في دنيا،وقد رآينا كيف أن الأعراب يقاتلون في كل مكان إلا في فلسطين، فهي متروكة لديهم رهينة للتطبيع مع اليهود، وهذا هو سر وجوهر الدلالة القرآنية،أن اليهود والنصارى يقولون،ثم تعقبهم الجاهلية العربية بالقول مثل قولهم؛ولكن من دون علم،على نحو يفهم من الكلام الإلهي أن أحزاب بني إسرائيل يفكرون،وأحزاب الجاهلية يتبعون!؟

فهل بعد هذا كله تبدو لنا غرابة أو سؤال :لماذا خربت المساجد ومنع منها، وعن الذين يسعون في خرابها؟ ولكن يبقى الوعد الإلهي محط أنظار وآمال الصادقين، أن هؤلاء ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين:"لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم..".

إن ما ينبغي تعقّله في سياق ما تقدّم،هو أن يعلم أهل البحث والتحقيق أن القرآن الكريم هو الذي يجيب على أسئلة الحياة بكل وقائعها وتجاربها،فإذا كانت الحزبيات الدينية في واقعها التاريخي قد أفسدت لدرجة أنها لم تُبق لنا صلاحًا حيث حلّت،لا في دين ،ولا في دنيا،فإن ما ينبغي التدبر فيه جيدًا،هو أن يعي أهل الإيمان الكيفيات التي تؤدي إلى نشوئها،سواء في الطوائف أو في المذاهب،أو في غير ذلك من الرؤى الدينية،كما هو حال كل الأحزاب الناشئة في واقعنا العربي والإسلامي، ويأتي في طليعة ذلك الحزبيات الفلسطينية التي يراد لأكثرها أن يكون صدىً لأحزاب الأعراب إمعانًا منها في المزيد من الخراب والمنع عن مساجد الله تعالى.

وهكذا، نرى أن ما تعايشه أمة العرب والمسلمين اليوم من ضياع وسعي في الخراب، وخصوصاً في مساجدها،كان ولا يزال من تعبيرات ونتائج تحكمات الحزبيات الدينية المقيتة بأمور الدين والدنيا،وما لم تتحول الأمور عن الأحزاب ويعاد النظر بكل ما أفرزته الجاهلية الحديثة من تأسيسات، فإن شيئاً لن يتغيّر في حياة الأمة، وقد جاء طوفان الأقصى ليكون تجسيدًا لحقيقة الموقف القرآني بضرورة التغيير على النحو الذي تكون معه الأمة أقرب إلى مساجدها وشعائر دينها.ذلكم هو معنى تحرير المساجد بالإيمان لتكون مصدراً للهداية والصلاح،كما قال تعالى:"إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين".والسلام.

بقلم الأكاديمي والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية "د. فرح موسى"

تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:

captcha